الأحد، 3 أغسطس 2008

درس من ماليزيا


إذا كان قد سبق لك زيارة ماليزيا ووقفت مشدوها ومنبهرا بتلك الصورة العصرية التي تبدو عليها اليوم فمن الصعب عليك أن تتصور أن هذه الدولة كانت تعاني قبل ربع قرن فقط من التخلف الشديد بسبب ما كانت تشهده من صراعات بين أعراق البلد المختلفة، وسوء استغلال الموارد وتوزيع الثروات، وتدني الأوضاع المعيشية، بالإضافة إلى حالة التخلف الاقتصادي الواضحة فكان الناتج المحلي الإجمالي لها يعادل دول مثل هايتي وهندوراس، وأدنى من الناتج المحلي الإجمالي لمصر وغانا بحوالي 5%.وكانت بداية الانطلاق لإحداث هذا التغيير السريع بعد تولي مهاتير محمد رئيس الوزراء السابق مقاليد الحكم في بداية الثمانينيات من القرن الماضي،حيث تجاوزت تجارتها مع العامل 200 مليار دولار، وتضاعف دخل ماليزيا إلى 8 أمثال الدخل في غانا، وأكثر من خمسة أضعاف دخل هندوراس، وأكثر من ضعفي ونصف الدخل في مصر، حيث بدأت الحكومة الماليزية بقيادته تطبق سياسات للتنمية الشاملة تقوم فلسفتها على أساس أن النمو الاقتصادي يجب أن يقود إلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الدخل، ومن خلال هذه الفلسفة استطاعت ماليزيا تقديم النموذج الأفضل عالميا لحل أصعب المعادلات من خلال تحقيق التنمية الشاملة ومحاربة الفقر، فأصبحت في مصاف الدول المتقدمة صناعيا واحتلت الترتيب الخامس عالميا من حيث قوة الاقتصاد المحلى وفقا لتقارير الأمم المتحدة، وتاسع دولة مصدرة للتقنيات العالية لتسبق دولا مثل إيطاليا والسويد، وفي نفس الوقت فقد استطاعت ماليزيا خلال الثلاثة عقود الأخيرة تخفيض معدل الفقر من 52.4% إلى 3.6%، كما تم القضاء على الفقر المدقع نهائيا.وقد قامت الحكومة بتطبيق العديد من الإستراتيجيات لتقليل الفقر، مثل زيادة امتلاك الفقراء للأراضي ورأس المال، ورفع مستويات تدريب العمالة، وتوفير مرافق البنية الأساسية في المناطق النائية بما في ذلك مرافق النقل والاتصالات السلكية واللاسلكية والمدارس والخدمات الصحية والكهرباء، وقد استمر هدف مكافحة الفقر في الخطط القومية للتنمية ليتم إدراج 54 مليار دولار في الخطة الخمسية الحالية تركز على التنمية البشرية وتقليل الفقر في المناطق الريفية، كما تم تعديل تعريف خط فقر الدخل عام 1986 ليصبح حوالي 156 دولارا أمريكيا في الشهر، ويأخذ في حسبانه إلى جانب احتياجات الحياة الضرورية من الغذاء وغير الغذاء، ما يجب أن يحصل عليه الفقراء من الملكية العقارية وصافي التحويلات المالية، وذلك حتى يعكس المؤشر الأبعاد المتعددة لطبيعة الفقر.واللافت للنظر أيضا هو السياسة الضريبية في ماليزيا التي أخذت بعداً اجتماعياً يستفيد منه الفقراء؛ وذلك بتأكيد مبدأ التصاعدية في ضريبة الدخل، حيث يبلغ الحد الأدنى من الدخل الخاضع للضريبة حوالي 658 دولار أمريكي في الشهر، وتؤخذ الضريبة بعد خصم أقساط التأمين الصحي، وعدد الأطفال، ونفقات تعليم المعوقين من الأطفال ومن يعول من الوالدين، ومساهمة صندوق التأمين الإجباري كما أن الدولة شجعت المواطنين المسلمين (أفرادا وشركات) على دفع الزكاة لصالح صندوق جمع الزكاة القومي الذي يدار بواسطة إدارة الشؤون الإسلامية في مقابل تخفيض نسبة ما يؤخذ من ضريبة الدخلإن جزءاً من نجاح البلاد في تقليص الفقر يرجع إلي قدرتها علي توفير عدد هائل من الوظائف الجديدة، فبينما تعاني أغلب بلدان العالم من البطالة كانت ماليزيا تستقدم العمالة من الخارج، وخلال الخمسين عاماً الماضية منذ الاستقلال نجحت ماليزيا في خلق 7.24 مليون فرصة عمل لتنخفض نسبة البطالة إلى 3%، وهذا ساعد أيضا في ارتفاع الدخل العام للأسرة في ماليزيا عشرة أمثال ما كان عليه في بداية عهد مهاتير ليصل حاليا إلى 1200 دولار شهريا.أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة فقد تعاملت معها ماليزيا بحذر حتى منتصف الثمانينيات، ثم سمحت لها بالدخول ولكن ضمن شروط تصب بشكل أساسي في صالح الاقتصاد الوطني، فيجب ألا تنافس السلع التي ينتجها المستثمر الأجنبي الصناعات الوطنية التي تشبع حاجات السوق المحلية، كما يجب أن تصدر الشركة 50 % على الأقل من جملة ما تنتجه، أما الشركات الأجنبية التي يصل رأس مالها المدفوع نحو 2 مليون دولار فيسمح لها باستقدام خمسة أجانب فقط لشغل بعض الوظائف في الشركةكما تتميز تجربة ماليزيا بأن الحكومة وجهت برامج محاربة الفقر لتقوية الوحدة الوطنية بين الأعراق المختلفة المكونة للشعب الماليزي، واستخدمت هذه البرامج كوسيلة سلمية لاقتسام ثمار النمو الاقتصادي، حيث كان التفاوت الكبير في الدخول، وعدم العدالة في توزيع الثروة سبباً في وقوع اشتباكات دامية بين الملايو (يشكلون الأغلبية 55%) والصينيين (يشكلون الأقلية 25%) عام 1969، وبذلك ساهمت جهود تقليل الفقر بجدارة في تقليل التوترات العرقية وترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي صار عنواناً لنهضة ماليزيا وازدهارها الاقتصادي.وأخيرا فان نجاح ماليزيا لابد وأن يكون محلاً للدراسة من جانب كل الذين يتطلعون إلي الرخاء الاقتصادي لمصر والخفض الفعلي لمستوى الفقر بعيدا عن التصريحات والشعارات، وأولئك الذين يسعون إلي فهم الكيفية التي نستطيع بها أن نعيش في وئام ووحدة وطنية حقيقية، ليس فقط بالتسامح الديني، بل وأيضاً بالاحترام المتبادل والمشاركة الإنسانية والعمل من أجل تحقيق الأهداف المشتركة
________________________________________
المصدر: جريدة المصريون الإلكترونية