الاثنين، 17 مارس 2008

سقوط بغداد وما أُثير عن دَوْرِ الشِّيعة فيه


هذا عنوان بحث علمي كتبه الباحث المصري الدكتور عبد المجيد أبو الفتوح بدوي وجعله خاتمة لكتابه التأريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي من القرن الخامس الهجري حتى سقوط بغداد، والذي نشرت طبعته الثانية دار الوفاء بمدينة المنصورة في مصر سنة 1408هـ/1988م.
وهو رسالة خصصها لبحث الإجراءات التي اتخذها الحكام والعلماء السنة للحد من نفوذ المذاهب غير السنية أو القضاء عليها ومن تلك الإجراءات ماقام السلاجقة خلال حكمهم والوزير نظام الملك والسلطان صلاح الدين الأيوبي وغيرهم مع شرح للأساليب المتبعة في حركة تعزيز المذاهب السنية والقضاء على ما يعارضها من مذاهب. ولما كان البحث أكاديمياً فقد سعى كاتبه إلى أن ينأى به عن التحيز لهذا الطرف أو ذاك، كما أنه لمَّا كانت الفترة التي سقطت فيها بغداد مما هو ضمن نطاق بحثه فقد خصَّص خاتمته لبحث ما قيل عن دَور للشيعة بهذا الشأن. وسننقل بعد ذلك بحثين أو ثلاثة مما يشبهه بالعِلمية والبحث عن حقيقة ما جرى على أرض الواقع وليس ما تمَّ تصوُّرُه في أذهان بعض الكتَّاب. ولما كان هذا البحث داخلاً في بحثنا الموسع الذي سميناه الإعصار المغولي من خوارزم إلى بغداد فقد ارتأينا نشر هذا البحث على أن نواصل التعقيب عليه بما تيسر لنا من المصادر التي لم يتمكن الباحث الكريم من الوصول إليه وهي كثيرة جداً ونخصُّ منها بالذكر المصادر التي عاش مؤلفوها شخصياً وقائع ذلك الغزو المدمر أو سمعوه من أفواه السفراء بين الحكام والملوك أو ممن وقع في أسر المغول ونجا. وفيما يلي نص بحث الدكتور عبد المجيد أبو الفتوح بدوي:
((سقوط بغداد وما أُثير عن دَوْرِ الشِّيعة فيه))
في هذه الخاتمة سأتناول بالدرس والتحليل ما أُثير عن دور الشيعة في سقوط بغداد على أيدي المغول. وعندما تُعالَج القضية في هذا الإطار فإن معالجتها لن تتطلب منا لأن نبحث عن أصول المغول ونشأتهم، أو تطور دولتهم إلا بالقدر الذي يلقي الضوء على هذه القضية التي نبحثها.
وبادئ ذي بدء نحب أن ننبِّه إلى أن الذين أشاروا بأصابع الاتهام إلى بعض عناصر الشيعة هم المؤرخون السِّنِّيُّون وعلى رأسهم ابن واصل، والمؤرخ الفارسي منهاج السراج الجوزجاني في كتابه طبقات ناصري الذي ألفه بعد سقوط بغداد بثلاث سنوات(2)، وكذلك أبو الفداء، وابن شاكر الكتبي، والسبكي، وابن كثير، والمقريزي، وأبو المحاسن، والسيوطي، والعماد الحنبلي. أما المؤرخ الشيعي الوحيد وهو ابن الطقطقى فقد انبرى لنفيِ هذا الاتهام، والردِّ عليه.
وكان اتهام المؤرخين السنيين منصباً على شخصيتين رئيسيتين: الأولى: شخصية محمد بن أحمد العلقمي (وزير الخليفة المستعصم)، والشخصية الثانية هي: نصير الدين الطوسي (مستشار هولاكو) وكلا الرجلين شيعي إمامي، وكما قلنا هما شخصيتان رئيسيتان ومعنى هذا ــ كما يرى بعض المؤرخين ــ أن عناصر أخرى من الشيعة أقل أهمية لعبت هي الأخرى دوراً في حدوث هذه الكارثة، أو أنهم على أحسن الفروض لم يقفوا بجانب إخوانهم السنيين في محنتهم بل كان لهم موقف مخالف تمثل في التودد لهولاكو والتقرب منه.
أما الاتهام الذي وجَّهه المؤرخون السنيون إلى الرجلين المذكورين فيتلخص في أن الأول وهو ابن العلقمي كان يكاتب المغول سراً، ويشجعهم على الزحف على بغداد والقضاء على الخلافة السنية. وفي سبيل أن تتحقق له هذه الغاية شجع الخليفة المستعصم على إضعاف جيش الخلافة، وتسريح الجزء الأكبر من عساكره، حتى يعجز هذا الجيش عن الصمود أمام المغول عندما يزحفون على بغداد.
والذي دفعه إلى هذا السلوك ــ في نظر هؤلاء المؤرخين ــ هو خلافة مع مجاهد الدين أيبك (الدويدار الصغير) قائد جيش الخليفة، وكذلك خلافه مع الابن الأكبر للمستعصم: أبو العباس أحمد، وكلاهما كان سنياً متعصباً، وشجَّعا السنة على ضرب الشيعة، وإحراق الكرخ في العام السابق مباشرةً لسقوط بغداد، أعني عام 655هـ/1257م وأُضير في هذه الحادثة بعض قرابة ابن العلقمي. ومن هنا يرى معظم هؤلاء المؤرخين أن هذه العملية كانت السبب في أن ابن العلقمي أضمر خيانة الخليفة والانتقام منه، ومن ثم عمل على تشجيع المغول على الزحف على بغداد، وإسقاط الخلافة العباسية السنية، وإحلال ملك علوي محل العباسي(3)، وقد تحقق له الشطر الأول من أمنيته عندما سقطت بغداد في أيديهم، وقُتل الخليفة المستعصم آخر خلفاء بني العباس في بغداد، ولكن الشطر الثاني من الأمنية: وهو إحلال خليفة علوي محل العباسي لم تتحقق حيث لم يوافقه المغول على ذلك حسب رواية بعض المؤرخين(4).
إذن هذه التهمة التي وجهها المؤرخون إلى ابن العلقمي، وبينوا أسبابها ودوافعها. أما التهمة المنسوبة إلى نصير الدين الطوسي فتتلخص في أنه هو الذي شجع هولاكو على قصد بغداد بعد أن حذره منجِّمه من هذا الأمر، وكان هذا المنجِّم سنياً ثم إنه أيضاً هو الذي أشار عليه بقتل الخليفة المستعصم(5).
هذا هو ما أجمع عليه ــ تقريباً ــ المؤرخون السنيون الذين سبقت الإشارة إليهم مع خلاف يسير بينهم في ذكر بعض التفاصيل، ونستطيع أن نبلور أراءهم في عدة قضايا تسهيلاً لمناقشتها:
  • إن ابن العلقمي كان السبب في إسقاط المغول لبغداد وقَتْل الخليفة العباسي، وإنه كان يهدف من وراء هذا إلى إقامة خلافة علوية محل العباسية.
  • إن ابن العلقمي كي يصل إلى غايته بذل جهده لإقناع الخليفة كي يسرِّح الجزء الأكبر من جيشه.
  • إن بعض عناصر الشيعة استقبلت هولاكو ورحَّبت به نكاية في السُّنَّة.
  • إن نصير الدين الطوسي شجَّع هولاكو على الزحف على بغداد، كما سهَّل عليه قتل الخليفة العباسي.

والآن إلى القضية الأولى التي ترى أن ابن العلقمي كان السبب في مجيء المغول إلى بغداد والقضاء على الخلافة العباسية. وهي قضية خطيرة تبنَّاها ــ مع الأسف ــ أكثرُ المؤرخين السُّنيين الذين أشرنا إليهم. ولقد كان في إمكانهم أن يكونوا أكثر واقعية لو أنهم اقتصروا على اتِّهام ابن العلقمي بمجرد خيانة الخليفة وإخوانه من السنَّة دون أن يجعلوه السبب الرئيس في غزو بغداد؛ ذلك أنه في وقت الشدائد والمحن قد يسعى بعض ضعاف النفوس إلى النجاة بأنفسهم ولو كان ذلك على حساب أهليهم وذوي قرباهم. أقول كان من الممكن أن يكون هؤلاء المؤرخون أكثر واقعية لو أنهم اقتصروا على اتهام ابن العلقمي بهذا دون إسناد سقوط بغداد برمَّته إليه، لأنهم أنفسهم كانوا يتابعون نشاط الزحف المغولي على شمال العراق في مؤلفاتهم عاماً بعد عام حتى وصل الأمر إلى أن أصبحت المناطق القريبة من بغداد مركزاً لنشاطهم وغاراتهم المخرِّبة. وقد بدأ هذا النشاط منذ عام 617هـ/1220م، ووصل إلى قمَّته في أواخر عهد المستنصر العباسي (ت سنة640هـ/1242م) الذي بذل جهده في تقوية الجيش حتى وصل عدد العساكر في عهده إلى 100000 تقريباً. وما فَعَلَ ذلك إلا لإحساسه بالخطر المحدق به، ومن ثَمَّ استعدَّ لمواجهته.


وهكذا نرى أن سقوط بغداد لم يكن مفاجأة لأحد، كما أن المغول أيضاً لم يكونوا في انتظار من يكاتبهم ليطمعهم في بغداد أو يدلُّهم على عوراتها، فلعلَّهم كانوا أكثر علماً بنقاط الضعف فيها من أهلها، ذلك أن نشاط المغول في المناطق القريبة من عاصمة الخلافة يمكن تقسيمه إلى مرحلتين:

الأولى: صرفوا جهدهم فيها إلى اختبار قوة المسلمين في هذه المنطقة والتعرف على مدى قدرتهم على الدفاع عن بلادهم، وقد بدأت هذه المرحلة منذ عام 618 هـ/1221م عندما علم الخليفة الناصر لدين الله بأن المغول يستعدون للنزول على مدينة إربل فأرسل إلى صاحبها مظفر الدين كوكبوري يأمره بالاجتماع مع عساكره لأبعادهم عن أملاك الخليفة، كما كتب أمير الموصل، والأشرف موسى بن العادل الذي اعتذر باستعداده للمسير إلى مصر لنجدة أخيه الكامل ضد الحملة الصليبية الخامسة النازلة إلى دمياط فسار كوكبوري مع بعض عسكر الخليفة سوى ثمان مئة جندي، فلم يَرَ أن يخاطر بنفسه وبالمسلمين(6).

وانسابت الغارات المغولية في منطقة الجزيرة الفراتية تخرب وتدمر، وتقتل وتسبي وتنهب دون أن تجد في طريقها من يردها على أعقابها، وذلك على أثر الهزيمة التي أنزلوها بجلال الدين الخوارزمي في عام 628هـ/1230م، ونتيجة لذلك توصل المغول إلى حقيقة هامة أشار إليها ابن الأثير بقوله عنهم: إنهم لما عادوا أخبروا ملكهم ((بخلوِّ البلاد من مانع ومدافع، وأن البلاد خالية من ملك وعساكر فقوى طعمهم))(7).


وترتب على إدراك المغول هذه الحقيقة أن ديار بكر والجزيرة الفراتية والمناطق القريبة من بغداد ظلت مسرحاً لغاراتهم منذ مقتل جلال الدين حتى سقوط بغداد في عام 656هـ/1258م ففي عام 635هـ/1237م قام المغول بغارتين على أعمال بغداد، فكاتب الخليفة المستنصر ملوك الأطراف يستنجدهم، وخرجت العساكر للقاء المغول فهزم عسكر بغداد،وقتل منهم خلق كثير(8)، وتكررت غاراتهم على أعمال بغداد في عهد الخليفة المستعصم في عامي: 643 ــ 647هـ/1245 ــ 1249م فقتلوا، وأسروا، ثم عادوا(9).


ومن هذا يتضح أن القوم لم يكونوا بحاجة إلى من يطلعهم على أسرار بغداد أو يطعمهم فيها فلقد جاسوا خلال الديار وتجوَّلوا قريباً منها، ووقفوا على نقاط القوة والضعف فيها واختزنوا ذلك كله حتى تتهيأ الظروف الملائمة للقضاء على هذه الخلافة. وأغلب الظن أنهم عقدوا العزم على تنفيذ هذه الخطوة منذ وقت مبكر قبل أن يصبح ابن العلقمي ذا نفوذ في عاصمة الخلافة، وليس أدل على ذلك من أن المغول لم يحاولوا الاستقرار في المناطق التي كانت مسرحاً لغاراتهم: كديار بكر والجزيرة الفراتية، وإنما كانوا يعودون أدراجهم بعد الغارات الكاسحة التي يشنونها على بعض المدن في هذه المناطق. لقد أجَّلوا هذا إلى أن تسقط بغداد في أيديهم، لعلمهم أن القضاء على هذه الخلافة سيقضي على هذا الخيط الرفيع الذي ما يزال يربط الأمة الإسلامية، الأمر الذي سيجعل احتلالهم هذه المناطق وغيرها من ديار الإسلام أمراً ميسوراً، وأكثر استقراراً.


وبدأ المغول في تنفيذ المرحلة الثانية عندما تولى ((مانكوخان)) بن تولي بن جنكيزخان إمبراطورية المغول في عام 649هـ/1251م(10)، إذ انتهجوا سياسة جديدة تجاه غرب آسيا لم يكن هدفهم فيها مجرد الإغارة والنهب، بل سعوا في هذه المرحلة الجديدة إلى الاستيلاء على البلاد الإسلامية في العراق والشام ومصر، وآسيا الصغرى، وإخضاع هذه البلاد لسلطانهم حتى تصبح جزءاً من إمبراطوريتهم، وكان من الواضح أن المرحلة الأولى التي حاولوا فيها اختبار قوة المنطقة، وكشف أحوالها قد تَمَّت بنجاح، وأصبح لديهم من المعلومات عنها ما يمكِّنهم من تحقيق أهدافهم في المرحلة التالية.


وعهد مانكوخان بتنفيذ هذه السياسة الجديدة تجاه غرب آسيا إلى أخيه هولاكو فحدد له مهمتين أساسيتين وهما: القضاء على الإسماعيلية في فارس، وإسقاط الخلافة العباسية(11)؛ وباشر هولاكو تنفيذ المهمة الموكولة إليه في عام 651هـ/1253م حيث أرسل طلائع جيشه للقضاء على قلاع الإسماعيلية(12)، ثم نزل هو على عاصمتهم أَلَمُوت في أواخر عام 654هـ/1256م(13)، ومن هناك حاول جس نبض الخليفة المستعصم، فأرسل إليه يطلب منه مدداً من الجند، فلم يلبِّ له طلبه، واكتفى بإعلان الطاعة والخضوع(14).


ومعنى هذا أن هولاكو قد بدأ في تنفيذ سياسة المغول تجاه الإسماعيلية، وتجاه الخلافة قبل عام 655هـ/1257م وهو العام الذي حدثت فيه الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد وتدخل فيها ابن الخليفة، وقائد جيشه لصالح السنة، وشجعا على إحراق الكرخ، الأمر الذي أثار ابن العلقمي ودفعه ــ كما يقول معظم المؤرخين السنيين ــ إلى مكاتبة المغول، ودعوتهم إلى بغداد(15).


ومن هذا يتضح أن المغول لم يكونوا ينتظرون دعوة ابن العلقمي لأنهم كانوا في الطريق إلى تنفيذ مهمتهم قبل أن تحدث هذه الفتنة التي اعتبرها المؤرخون سبباً في خيانة ابن العلقمي. كما أنهم لم يأتوا إلى بغداد تلبية لدعوته، إنما تنفيذاً لسياسة رسموها لأنفسهم، وتتويجاً لجهودهم التي بذلوها في المرحلة الأولى والتي استهدفت الإغارة والنهب والاستكشاف. وإذا بطل أن ابن العلقمي كان السبب في مجيء المغول إلى بغداد، وقضائهم على الخلافة يبطل بالتالي ما ذهب إليه بعض مؤرخي السنة من أنه كان يهدف من وراء هذه الخطوة إلى نقل الخلافة للعلويين. وعلى أن بعض مؤرخي السنة: كابن واصل وابن كثير ذكرا في هذا الصد أمراً غريباً وهو أن هذا الوزير كان ينوي نقل الخلافة إلى أحد الفاطميين مع أن ابن العلقمي شيعي إمامي، والفاطميون إسماعيلية، مما يرجِّح أن مؤرخي السنة الذين تبنوا هذا الاتهام لم يكونوا متحققين مما ذهبوا إليه(16).


والقضية الثانية: أن ابن العلقمي بذل جهده لإقناع المستعصم بتسريح الجزء الأكبر من عساكر الخلافة حتى ييسِّر على المغول مهمَّتَهم. وهذا ما ذهب إليه السبكي، وابن كثير، والمقريزي، وأبو المحاسن(17).


ولكنا من خلال استعراضنا لآراء هؤلاء المؤرخين وغيرهم في الخليفة المستعصم نكاد نجزم بأن هذا الخليفة لم يكن بحاجة إلى من يقدم له النصح حتى يقوم بتسريح الجزء الأكبر من جيشه الذي تعب أبوه في تكوينه، فقد أجمعوا على وصفه بالبخل والشح، والحرص على جمع المال من أي مصدر حلالاً كان أم حراماً، ولنستمع إلى رأي ابن كثير فيه يقول:


((كان سنياً على طريقة السلف، واعتقاد الجماعة، ولكن كان فيه لين، وعدم تيقظ، ومحبة للمال جمَّة، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم وكانت قيمتها نحو من مئة ألف دينار، فاستُقبح هذا من مثل الخليفة، وهو مستقبح ممن دونه بكثير، بل إن مِن أهل الكتاب مَن إنْ تأمنه بقنطار يؤدِّه إليك))(18). فبعض أهل الكتاب أكثر حرصاً على أداء الأمانة من المستعصم خليفة المسلمين. ويتابع أبو الفداء تطور أمر هذه الوديعة بين الخليفة والناصر داود فيذكر ما يمكن أن يضيف إلى صفات هذا الخليفة قلة الشهامة وانعدام المروءة، ذلك أن الناصر وصل إلى بغداد مع الحجاج العائدين واستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يردَّ المستعصم عليه وديعته، فأرسل له مَن حاسَبَهُ على كل ما وصله ــ أثناء ترداده على بغداد ــ مِن قِبَل الخلافة، وأدخل في الحساب كل ما قدَّمَ له أثناء استضافته من لحم وخبز، وعَلَفٍ لدوابِّهِ، وغير ذلك، وثمَّنَ عليه ذاك كلَّه بأغلى الأثمان؛ ثم أرسل إليه الخليفة بعد ذلك شيئاً يسيراً من المال ((وألزمه أن يكتب خطَّه بقبض وديعته، وأنه ما بقي لا يستحق عند الخليفة شيئاً، فكتب خطَّه بذلك كرهاً))(19).


إنَّ خليفة بهذه الصفات لم يكن بحاجة إلى ابن العلقمي كي يقدِّم له النصح بتقليص عدد الجُند. وحتى لو سلَّمنا جدلاً بأن هذا حَدَثَ، فإن هذا النصح ما كان ليؤتي ثماره لولا أنه صادفَ هوىً في نفسه ولاءمَ طبعه ومزاجه، وفي هذه الحالة يكون من الظلم أن نلقي بالتبعة على ابن العلقمي وحده وننسى دور الخليفة في هذا الأمر، وهو دَور رئيسي وأساسي، ويشير إلى ذلك ابن الفوطي بقوله: ((وكان الخليفة قد أهملَ حالَ الجُندِ ومَنَعَهم أرزاقَهم وأسقطَ أكثرهم من دساتير العرض، فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس وبذل وجوههم في الطلب في الأسواق والجوامع))(20).


أما القضية الثالثة، وهي أن بعض عناصر الشيعة استقبلت هولاكو ورحَّبت به نكايةً في السُّنَّة، فذلك أمر ذَكَرَهُ بعضُ المؤرخين على اختلاف بينهم في تصوير درجة تعاون الشيعة مع هولاكو: فأبو المحاسن يذكر انه انضم إلى جيش هولاكو ((خلق من أهل الكرخ الرافضة))(21)، أما رشيد الدين الهمذاني فيذكر أنه أثناء حصار بغداد قدِمَ على هولاكو بعض العلويين والفقهاء من الحلة، والتمسوا إليه أن يعيِّن لهم شحنة، فأرسل في أثرهم جنده ليختبروا صدقَهم ويقفوا على مدى إخلاصهم، فأحسنوا استقبالهم وأقاموا الأفراح ابتهاجاً بهم))(22).


لكن أبا المحاسن لم يوضح لنا مقدار هذا الخلق من الشيعة الذين انضمُّوا إلى جيش هولاكو: فإن كانوا قلَّة لا يكون الأمر مستغرّباً، لأن عناصر الخيانة غالباً ما تطفو على السطح في أوقات المحن والشدائد، وليس بالضرورة أن يكونوا من الشيعة فقط، وهم على أية حال لا يمثِّلون حينئذ اتجاهاً عاماً يدين أهل الكرخ؛ وإنْ كانوا كثرة فمعنى هذا أن أبا المحاسن ينسب إلى الشيعة في بغداد خيانة عامة . وإذا كان الأمر كذلك فَلِمَ أعملَ المغولُ سيوفَهم في أهل السنة والرافضة معاً عندما اقتحموا بغداد، وقد نصَّ هو على ذلك؟(23).


أما ما ذكره رشيد الدين فلا ينهض دليلاً على خيانة القوم بقدر ما يعكس لنا مشاعر الخوف التي سيطرت على عامة الناس سِنِّيِّهم وشيعيِّهم على حدٍّ سواء؛ ولقد كان في مقدِّمة جيوش هولاكو بعض جند بدر الدين لؤلؤ (صاحب الموصل)، ومع ذلك لم يتهمه أحدٌ بخيانة الخليفة أو خيانة المسلمين، لعلمهم أن الرجل أُكرهَ على سلوك هذا الطريق الوعر، وطالما نبَّهَ الخليفةَ سِرِّاً إلى الخطر المحدق، لكنه لم يلتفت إليه(24).


إنَّ الخيانة ــ في ظني ــ لا تتحقق إلاّ إذا وُجدت القيادة الواعية المخلصة التي تجنِّد الجميع في جهد منظَّم لدرء خطرٍ يتهددهم؛ أما في حالة الضياع وانعدام القيادة وترك الناس يواجهون مصيرهم فإن مقاييس الأمانة والخيانة تصبح مقاييس حساسة يجب أن تستعمل بدقَّة وحَذَرٍ بالغين في الحكم على الناس الذين من حقهم في هذه الحالة أن يجتهدوا لدرء الخطر عن أنفسهم. ولقد كانت بغداد تعيش حالة الضياع هذه وهي تواجه أشرس عدوٍّ عرفته البشرية في تأريخها الطويل.


بقيت القضية الرابعة: وهي قضية نصير الدين الطوسي وما اتًُّهم به من تشجيع هولاكو على الزحف على بغداد، ثم هوَّن عليه بعد ذلك قتلَ الخليفة المستعصم، وهو ما ذهب إليه رشيد الدين وابن كثير(25)؛ ورواية رشيد الدين أوسع وأكثر تفصيلاً بحكم عمله في دولة إيلخانات المغول التي قامت في فارس.


فيذكر رشيد الدين أن هولاكو طلب من منجِّمه حسام الدين أن يحدد له الوقت المناسب للزحف على بغداد، فحذَّره من مغبَّة الأمر لإن كل مَن قَصَدَ بغدادَ والعباسيين لم يستمتع بالمُلْك والعمر، علاوةً على ما سيترتب على ذلك من كوارث كونية كالزلازل والعواصف، ثم موت الملك الأعظم؛ فاستدعى هولاكو نصير الدين الطوسي ــ وكان قد ألحقَه بخدمته بعد أن سقطت قلاع الإسماعيلية الذين كان يعيش في كنفهم ــ وطلب رأيه في هذا الأمر ((فخاف وظنَّ أن الأمر على سبيل الاختبار، فقال: لن تقع أية واقعة من هذه الأحداث، فقال هولاكو: إذن ماذا يكون؟ قال: إن هولاكو سيحل محل الخليفة)). فأحضر هولاكو منجِّمَه ليتباحث مع الطوسي، فأخذ الأخير يبرهن على صحة وِجهة نظره بأنَّ كثيراً من الصحابة استشهدوا ولم يحدث فسادٌ قط، وإن كثيراً من العباسيين قُتِلوا ولم تختلّ الأمور(26).


ولعل في تعبير رشيد الدين ((فخاف وظنَّ أن الأمر على سبيل الاختبار)) ما يبرئ ساحة الطوسي، لأن الرجل فعلاً كان قريبَ عهدٍ بخدمة هولاكو، وربما ظنَّ أن هذا أول امتحان له لمعرفة صدق نواياه تجاه المغول. فإذا أضفنا إلى ذلك ما قاله ابن شاكر الكتبي عنه من أنه ((كان للمسلمين به نفعٌ خصوصاً الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم، وكان يَبَرُّهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم))(27)، وذلك بعد أن أصبح ذا نفوذ في دولة المغول. إذا أضفنا ذلك أدركنا ــ على الأقل ــ انه ليس لدينا دليل أكيد على سوء نية هذا الرجل تجاه الخلافة وتجاه إخوانه المسلمين المخالفين له في المذهب.


مما مضى يتبين لنا أن الغزو المغولي لبغداد كان أمراً واقعاً لا محالة، وأن ابن العلقمي لا دخل له في حدوثه، فقد كان هذا الأمر حصاد جهود طويلة قام بها المغول في منطقة غرب آسيا منذ عام 618هـ/1221م واختبروا فيها أهم القوى الموجودة في المنطقة حتى تأكَّدَ لهم أن الخلافة العباسية متداعية، وأن دولة الأيوبيين في الجزيرة والشام مفككة، وأن مماليك مصر لم يهدأ الصراع بينهم وبين الأيوبيين منذ سلبوا هذا الإقليم منهم في عام 648هـ/1250م، وأن سلاجقة الروم بدأوا يمرون بأخطر مراحل ضعفهم منذ وفاة علاء الدين كيقباد (آخر السلاطين الأقوياء في عام 634هـ/1237م، ولذا جاء توقيتهم لتوجيه الضربة المميتة للخلافة العباسية دقيقاً وحاسماً.


وأغلب الظن أن الذي أثار مسألة خيانة ابن العلقمي حتى أصبحت أمراً متداولاً على أقلام المؤرخين السُّنِّيين المعاصرين للنكبة ومَن جاء بعدهم أمران: الأول أنه الوحيد الذي أبقى عليه المغول من بين الشخصيات الهامة وتركوه في منصبه(28)، وهذه كافية لأن توضَعَ أمامها علامة استفهام كبيرة. والأمر الثاني هو الخلاف الذي كان موجوداً بين ابن العلقمي الشيعي، ومجاهد الدين أيبك السني (قائد جيش الخليفة) يؤازره الابن الأكبر للمستعصم. ومهما حاول المؤرخون إظهار الخلاف بين الرجلين على أنه خلاف مذهبي فهو في رأيي لا يعدو أن يكون خلافاً سياسياً طبيعياً يحدث في كثير من الأحيان بين السلطتين: السياسية والعسكرية، ومن الطبيعي أن يتبادل الفريقان الاتهامات في هذا الجو المكفهرّ الذي تكتنفه الأخطار من كل جانب. وقد ادرك رشيد الدين هذه الحقيقة فذكرَ أن مجاهد الدين لما كان خصماً للوزير فإن أتباعه كانوا يذيعون في الناس أن الوزير متفق مع هولاكو وأنه يريد نصرته وخذلان الخليفة، فقوي هذا الظن(29).


وليس معنى هذا أننا نسعى إلى تبرئة ساحة ابن العلقمي، فإننا نقول للمرة الثانية إن بقاءه حياً بعد مقتل سيِّدِه ومعظم أعوانه يجب أن يوضع أمامه علامة استفهام كبيرة(30). ونحن لا نستبعد أن يكون المغول هم الذي بدأوا بمكاتبته، فقد كانت هذه المكاتبات ومحاولة استمالة بعض العناصر إليهم إحدى الوسائل التي سلكوها لتسهيل سيطرتهم على بعض المناطق؛ فعلوا هذا مع شهاب الدين غازي (صاحب خلاط وميافارقين)، ومع بدر الدين لؤلؤ (صاحب الموصل)(31).


وقد يُستأنس في هذه النقطة بما ذكره المقريزي من أنه في عام 654هـ/1256م وصلت جواسيس هولاكو إلى الوزير ابن العلقمي ببغداد، وتحدثوا معه، ووعدوا جماعة من أمراء بغداد، والخليفة في لهوه لا يعبأ بشيء(32).


وقد يكون هذا الوزير بذلَ النُّصحَ الصادق للخليفة لكن طبيعة الصراع المحتدم بينه وبين القوى العسكرية ممثلة في الدويدار الصغير شكَّكت الخليفة في صدق نواياه قلم يلتفت إلى نُصحه؛ ويُستأنس هنا بما ذكره ابن كثير ــ وهو ممن حَمَلَ على هذا الوزير بقسوة ــ فيقول: إن هولاكو لما خرج من همذان في طريقه إلى بغداد أشار ابن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنيَّة ليكون ذلك مداراة عما يريده من قَصْدِ بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة التتار بما يبعثه إليهم من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل الهدايا، فاحتقرها هولاكو(33).


وليس من المستبعد أيضاً أن لا يكون هناك أي اتصال سابق لهذا الوزير بالمغول إذا شئنا أن نصدَّق المؤرخ الشيعي ابن الطقطقى الذي يروي عن ابن أخت الوزير أن ابن العلقمي لما خرج للقاء هولاكو أثناء حصار بغداد وسمع كلامه منه، وَقَعَ منه موقعَ الاستحسان، وأن الذي تولَّى تقديمه إلى هولاكو نصيرُ الدين الطوسي(34). وقد كان من سياسة هولاكو تخيّر بعض العناصر الجيدة من المجتمعات التي يفتحها والإبقاء عليها للانتفاع بها في مجال العلم والإدارة كما فَعَلَ بنصير الدين الطوسي وغيره. وابن العلقمي كان متعدد المواهب في رأي بعض المؤرخين السنيين: فهو عند ابن شاكر الكتبي وزير كفء خبير بتدبير المُلْك(35)؛ وعند ابن العماد الحنبلي وزير فاضل لكنه مغالٍ في التشيع(36)؛ ولديه ــ عند ابن كثير ــ فضيلة الأدب والإنشاء(37). فليس من المستبعد أن تكون هذه المزايا إلى جانب ــ إلى جانب وجود الطوسي في بلاط هولاكو ــ هي التي أبقت عليه، وجعلت هولاكو يثق به ويعينه وزيراً لبغداد بعد رحيله عنها.


كل هذه الاحتمالات التي طرحناها توحي بأنه ليس هناك دليل أكيد على خيانة هذا الرجل، فالأمر مستغلق كما يقول براون(38) ((وسيظل مستغلقاً غامضاً ما شاء الله له أن يكون؛ فإذا لم نشأ أن ندعو للوزير بالرحمة ــ كما فعل ابن الطقطقى ــ فلا أقلَّ من أن نمتنع عن لعنته كما فعل صاحب طبقات ناصري. ومن الملاحظ أن الأخير يتغالى في سنيته أكثر مما يتغالى ابن الطقطقى في تشيُّعه))(39).


إن الشيء الأكيد الآن هو أن سقوط بغداد لم يكن للشيعة دور فيه، وأن ما أثاره المؤرخون السنيُّون حول هذه القضية كان لوجود عدة ملابسات خارجية منها: وجود ابن العلقمي الشيعي في منصب وزير الخليفة ، ووجود الطوسي الشيعي مستشاراً لهولاكو الغازي، ثم الفتن المذهبية ــ القريبة العهد من سقوط بغداد ــ بين السنة والشيعة، والصراع بين السلطتين السياسية والعسكرية في بغداد، ومحاولة صبغِهِ بالصبغة المذهبية الطائفية؛ كل هذه الملابسات جعلت المؤرخين يوجِّهون هذا الاتهام وهم يتابعون أخبار محنة تشيب لهولها الولدان، وكان من الصعب عليهم أن يواصلوا رحلتهم في هذا التِّيه وهم متجرِّدون تماماً عن أفكارهم السابقة.


لقد كان سقوط بغداد ــ وسط هذه الظروف ــ أمراً واقعاً لا محالة سواء وُجِدَ الشيعة أم لم يوجدوا)).


انتهت مقالة الدكتور عبد المجيد أبو الفتوح بدوي التي جعلها خاتمة لكتابه الذي ذكرناه في صدر المقالة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(1) باحث في التأريخ الاسلامي.


(2) تأريخ الأدب في إيران، 587 ــ 588.


(3) ابن كثير: البداية والنهاية، 13/196 ــ 201.


(4) تأريخ الخلفاء للسيوطي، 435؛ شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي، 5/272.


(5) حسن إبراهيم: تأريخ الإسلام السياسي، 4/157.


(6) الكامل في التأريخ لابن الأثير، 12/378 ــ 379.


(7) الكامل في التأريخ لابن الأثير، 12/503.


(8) ابن الفوطي: الحوادث الجامعة، 111 ــ 112؛ ابن العبري: تأريخ مختصر الدول، 438.


(9) ابن الفوطي: الحوادث الجامعة، 199 ــ 200، 241 ــ 242.


(10) انظر: زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، 2/360؛ تأريخ مختصر الدول، 261.


(11) ذكر براون ان الجمعية الكبرى للمغول (قريلتاي) اجتمعت في عام 649هـ/1251م في بداية عهد مانكوخان وقررت إيفاد بعثتين حربيتين: الأولى إلى الصين ويتولاّها قبلاي خان أخو الإمبراطور، والثانية إلى إيران والعراق وآسيا الصغرى ويرأسها الأخ الأصغر للإمبراطور هولاكو خان (تأريخ الأدب في إيران، 565 ــ 566). ويشير رشيد الدين الهمذاني إلى بعض الأسباب التي جعلت المغول يوجِّهون هاتين الحملتين فيذكر أن أحد قُوَّاد المغول في إيران أرسل إلى الإمبراطور يشكو إليه الملاحدةَ (الأسماعيليةَ) وخليفةَ بغداد، ويضيف إلى ما سبق قوله: إن الإمبراطور رأى أن بعض الممالك قد دخل فعلاً في حوزته وبعضها لم يُستخلَص بعد، فوجَّه أخاه قوبلاي إلى بلاد الشرق، وكلَّف هولاكو بفتح غرب إيران والشام ومصر وبلاد الروم والأرمن (جامع التواريخ، 2(1)/233 ــ 234).


(12) جامع التواريخ، 2(1)/243.


(13) جامع التواريخ، 2(1)/256.


(14) جامع التواريخ، 2(1)/267.


(15) يقول ابن كثير في حوادث عام 655هـ: ((وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنُهِبَ الكرخُ ودُورُ الرافضة حتى دُور قرابات الوزير ابن العلقمي، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته التتار)) (البداية والنهاية، 13/196).


(16) انظر: السلوك للمقريزي، 1(2)/400، الحاشية رقم 2؛ البداية والنهاية، 13/202.


(17) انظر: طبقات الشافعية، 5/110 ــ 111؛ البداية والنهاية، 13/201؛ السلوك للمقريزي، 1(2)/412؛ النجوم الزاهرة، 7/48. ويذكر ابن كثير أن العساكر في آخر أيام المستنصر كانت قريباً من 100000مقاتل، فلم يزل ابن العلبقمي يجتهد في تقليلهم حتى لم يبقَ منهم سوى 10000 (البداية والنهاية، 13/202).


(18) البداية والنهاية، 13/204 ــ 205.


(19) المختصر في أخبار البشر، 3/191.


(20) الحوادث الجامعة، 320 ــ 321.


(21) النجوم الزاهرة، 7/49.


(22) جامع التواريخ، 1(2)/295 ــ 296.


(23) النجوم الزاهرة، 7/50.


(24) النجوم الزاهرة، 7/48 ــ 49.


(25) البداية والنهاية، 13/201؛ جامع التواريخ، 1(2)/279 ــ 280.


(26) جامع التواريخ، 1(2)/279 ــ 280.


(27) فوات الوفيات، 2/310 ــ 311.


(28) يقول كاتب هذا البحث يوسف الهادي: لقد سها قلمُ هذا الباحث الفاضل أعني الدكتور عبد المجيد أبو الفتوح فتصور الأمر كذلك. والحقيقة هي أن هولاكو قد عيَّن لبغداد إدارة مدنية يديرها حشدٌ من كبار الشخصيات ومنهم من كان من أركان حكم الخليفة المستعصم، ومنهم من قام بوساطة لكي يُعَيَّن في الإدارة المدنية الجديدة، ولنقرأ ما يقوله مؤلف كتاب الحوادث المعاصر لهذه الوقائع: ((ورحل السلطان (هولاكو) من بغداد في جمادى الأولى عائداً إلى بلاده ومقرِّ مُلْكه، وفوَّض الأمر إلى الأمير علي بهادر وجعله شحنة بها (وهو المنصب الذي يعادل اليوم منصب مدير الشرطة العام)؛ وإلى الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي؛ وصاحب الديوان فخر الدين ابن الدامغاني؛ ونجم الدين أحمد بن عمران، وهو من أهل باجِسرى كان يخدم في زمن الخليفة عاملاً، فاتَّصل الآن ببعض الأمراء وحَضَرَ بين يدي السلطان (هولاكو) وأنهى إليه من حال العراق ما أوجبَ تقديمه وتشريفه وتعيينه في الأعمال الشرقية وهي الخالص وطريق خراسان والبندنيجين، وأن يتفق مع الوزير وصاحب الديوان في الحكم ولقب المُلْك؛ ونجم الدين عبد الغني بن الدَّرنوس؛ وشرف الدين العلوي المعروف بالطويل؛ وكان تاج الدين علي ابن الدوامي حاجب الباب قد خرج مع الوزير (ابن العلقمي) إلى حضرة السلطان (هولاكو)، فأمر أن يكون له صدر الأعمال الفراتية، فلم تَطُلْ مُدَّتُه وتوفي في ربيع الأول، فَجَعَلَ ولدَه مجدَ الدين حسين عوضه؛ وحَضَرَ أقضى القضاة نظام الدين عبد المنعم البندنيجي بين يدي السلطان فَأمَرَ بأن يُقَرَّ على القضاء)) (كتاب الحوادث، 361، طبعة حققها الدكتور بشار عواد معروف وعماد عبد السلام رؤوف، صدرت عن دار الغرب الإسلامي سنة 1997). وسنلقي فيما بعد أضواء على كل واحد من هؤلاء ومهامه الخطيرة في عهد الخليفة المستعصم.


(29) جامع التواريخ، 1(2)/274.


(30) بنفس القدر الذي ينبغي أن توضع فيه علامات استفهام كبيرة أمام كل واحد من الشخصيات المهمة ممن ذكرناهم في الهامش السابق الذين ظلوا أحياء وعيَّنهم هولاكو في مناصب خطيرة (يوسف الهادي).


(31) ذكر سبط ابن الجوزي أنه في عام 638هـ أرسل تولي بن جنكيزخان رسالة إلى شهاب الدين غازي صاحب خلاط وميافارقين يدعوه هو وملوك الإسلام إلى الدخول في طاعته، ويذكر أنه عيَّنه سلحداراً (مرآة الزمان، 8(2)/733).


(32) السلوك، 1(2)/400.


(33) البداية والنهاية، 13/200.


(34) الفخري، 338.


(35) فوات الوفيات، 2/312.


(36) شذرات الذهب، 5/222.


(37) البداية والنهاية، 13/203.


(38) في لغت نامه دهخدا (مادة براون): إدوارد براون (1862 ــ 1926)، الأستاذ في جامعة كمبريدج المتضلِّع من اللغات الفارسية والعربية والتركية، من آثاره: تأريخ الأدب الإيراني في 4 مجلدات (يوسف).


(39) تأريخ الأدب في إيران، 588.




مع سبق الإصرار


بسم الله الرحمن الرحيم


مع سبق الإصرار


لست بناقدة ولا أطمح أن أكون ..ربما أحب أن اقرأ نقد بعض الأعمال الأدبية لكي أتعلم..أتعلم أن أرى السطور ومابينها والكلمات وماوراءها..أن أنفذ من النص إلى فكر الكاتب ووجدانه لحظة الإبداع وأراقب عن كثب ما يختلجها من زلازل فكرية واضطرابات وجدانية ثم أتحاور معها وأحاول الوصول إلى أعماقها وإلى نقطة التقاء أبدأ منها طرح أسئلة حول إيجابيات وسلبيات العمل دون أن أكسر قلم الكاتب أو قلبه..فالعمل الإبداعي جزء لا يتجزأ من روح مبدعه وأن تمزقه وتلقي به في وجهه فذلك لايعني إلا جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد..


خطرت لي هذه الخواطر وأنا أتصفح بعض المواقع الأدبية وأتابع طريقة التعاطي مع النصوص المطروحة ..وفى الحقيقة وجدت صورة مكررة لما يحدث فى بعض وليس كل المنتديات الثقافية على أرض الواقع..هناك كبار يستأثرون بالكلمة والنقد..لايريدون أن يروا إيجابيات في كتابة المنضمين الجدد للمكان..لايريدون أن يحاولوا الدخول إلى عوالمهم ومحاورة أفكارهم في جو صحي سوي..لفقط يتلقفون العمل ويضعونه تحت أحذيتهم دون رحمة ..كل مهمتهم هي البحث عن مواطن الضعف والركاكة واضطراب الفكرة والمضمون ..وإن لم تكن موجودة أوجدوها هم بسطوتهم القلمية التي يخافها الجميع ويحرص على استرضائها حتى لا يناله منها صفعة أو ركلة ترمي به إلى غياهب الإحباط والسقوط واللاعودة إلى الكتابة..


إن الكاتب ليس كغيره من البشر..إنه أكثر حساسية وأرهف شعوراً ..وعمله إنما هو خلاصة فكره ووجدانه وانفعالاته وتوجهاته وخلفياته وبيئته..وحينما توجه طعنة لعمله فكأنما يُطعن كل ذلك معه وهذا يعني وأد إبداعه حياً مع سبق الإصرار والترصد..ولعلي أتساءل : ألا يجب علينا استيعاب الجديد ومحاولة إفساح المكان له ليتبوأ موقعه..أليس من حقه أن يجد لقلمه موضعاً تحت الشمس بدلاً من إلقائه إلى مستنقع الظلال بل الظلام دون بواكي..ثم ألم تتعرض كل المناهج الجديدة وطرق الكتابة المختلفة إلى عواصف نقد ممن سبقوها لمجرد أنهم لم يستطيعوا النفاذ إلى عوالمهم وقراءتهم..ثم أصبحت تلك المناهج والطرق من المدارس الراسية الراسخة في مجالاتها والتف حولها مدافعون وموالون لها وتغير واقعها ومكانها من القاع المتوقع إلى القمة الواقعية..؟؟


مراراً سمعت كلمات تناشد الكبار أو من يظنون أنفسهم كباراً أن ينظروا بعين الرأفة إلى هؤلاء الذين يقتحمون صرح الكتابة بأقلام تنضح بالأمل والمقدرة على التجديد والتطوير ..أن يتبنوهم ويحتضنوهم دون قيد أو شرط ..دون إجبارهم على تغيير توجهاتهم كشرط أساس لمنحهم البركات والدفعات..دون الإصرار على هدمهم فكرياً ووجدانياً قبل أن يفكروا فى نقلة جديدة أمامية لأقدامهم..إن الإيجابية فى النقد لاتعني التحطيم..لكنها تعني التقويم والاستيعاب ..بالطبع هذا لايعني أن ندفع بالسيء إلى الأمام أو أن نأخذ بيد الغث ونجعله فى مكان السمين ولكن يعني أن نميز بين الساقط والذى يستطيع أن يصعد..بين المبتذل وبين من عنده القدرة على الارتقاء...بين من يعرف ماهية القلم وبين المكسورة أقلامهم قبل أن تكتب...


لقد احتوى نجيب محفوظ جيلاً بأكمله دون أن يحطمه ودون أن يجبرهم على تغيير طريقتهم فى الكتابة..كان يوجههم ويعطيهم من عصارة خبراته وطريقته الإبداعية لكننا أبداً لم نسمع أنه كان سليط اللسان أو جارحاً بل على العكس من ذلك كان يعلمهم أن يقفوا في مواجهة الريح أن يتعلموا من النقد دون أن يسمحوا له بشنق إبداعهم الوليد..ولهذا فقد خرجت من مدرسته عشرات المواهب المتميزة ذات الشخصية الخاصة التي تأثرت ربما باحتوائه وتوجيهاته لكنها ظلت محتفظة بمذاقها المختلف عن غيرها مما ساعد على بزوغ شمس مدارس جديدة لم تكن موجودة من قبل لم تناهض القديم لكنها دانت له بالكثير من عوامل التألق والنجاح واعتبرت مدارسها تطوراً طبيعياً لمدرسته ..أما الذين لم يجدوا إلا من صفعهم فى بداياتهم فقد أضمروا حقداً لهؤلاء الذين حطموهم وحاربوهم هم والموالين لهم حين سطعت نجومهم بوعي وبغير وعي ومن ثم تقطعت أواصر التواصل بين المدارس والأجيال الأدبية المختلفة إلا من رحم ربي..


لدينا مشكلة عامة لانستطيع إنكارها تتركز في صعوبة تقبل الآخر..صعوبة التعاطي مع فكره إن كان يختلف معنا..هذه المشكلة لاتدمر إيجابية النقد فقط ولكنها تدمر الكثير من مناحي حياتنا العلمية والعملية..وتقتل الإبداع والابتكار والحوار ..وهي أشياء لازمة لتطويرنا على كافة المستويات وإن لم نستطع أن نتحرر ونتجرد من أهوائنا الشخصية وردود أفعالنا العنيفة والميل للهدم لنظل فى القمة والقدرات الفاشلة في بث روح التواصل والاتصال فلن نستطيع أن نحلم بغد أكثر إشراقاً وتقدماً.. لأننا ببساطة مصرون على الضحك على أنفسنا وتمنيتها بما لا أمل فيه..إن التغيير أبداً لايبدأ من الخارج ولكن من الداخل..وإذا كان المثقفون وحاملو شعلة النور فى المجتمع هم أول من يرفضون التغيير فلا لوم إذن على العوام ..وعليه فلنخرس ألسنتنا جميعاً وليحتفظ كل منا برأيه لنفسه بدلاً من نتبادل الاتهامات غير الموضوعية على الموائد الإعلامية والعنكبوتية وحتى المنزلية..ومادمنا نجهل ألف باء تقدم فلا داع لأن ندعي ماليس لنا ونوهم غيرنا بما لم و لن يحدث..


د.حنان فاروق